فصل: تفسير الآيات رقم (36- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء الثامن عشر

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حم *‏}‏ أي حكمة محمد إليها المنتهى كما تقدم في الدخان ما أفهم إنزاله من أم الكتاب جملة إلى بيت العزة، ودل على بركته مما دل على حكمة منزله وعزته بالبشارة والنذارة والإيقاع بالمجرمين بعد طول الحلم والأناة والنجاة للمتقين وغير ذلك من أمور هي في غاية الدلالة على ذلك لأنها راجعة إلى الحسن لمن ألقى السمع، وهو شهيد، وأشار إلى سهولتها على من تأمل هذا الذكر المترجم بلسان أعلى الخلق وأكملهم وأشرفهم خلائق وأفضلهم، ابتدأ هذه بالإعلام بأنه زاد ذلك يسراً وسهولة بإنزاله منجماً بحسب الوقائع مطابقاً لها أتم مطابقة بعد إنزاله جملة من أم الكتاب ثم مرتباً لما أنزل منه ترتيباً يفهم علوماً ويوضح أسراراً غامضة مهمة فقال‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب‏}‏ أي إنزال الجامع لكل خير مفرقاً لزيادة التسهيل في التفهيم والإبلاغ في اليسر في التعليم وغير ذلك من الفضل العميم وزاده عظماً بقوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي كائن من المحيط بصفات الكمال‏.‏

ولما كان- كما مضى- للعزة والحكمة أعظم بركة هنا قال‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم *‏}‏ فكان كتابه عزيزاً حكيماً لا كما تقول الكفرة من أنه شعر أو كذب أو كهانة لأنه لا حكمة لذلك ولا عزة بحيث يلتبس أمره بأمره هذا الكتاب المحيط بدائرة الحكمة والصواب، ودل بشواهد القدرة وآثار الصنعة من نسخة هذا الكتاب على الصفتين وعلى وحدانيته فيهما اللازم منه تفرده المطلق فقال مؤكداً لأجل من ينكر ذلك ولو بالعمل، وترغيباً في تدقيق النظر بتأمل آيات الوجود التي هذا الكتاب شرح لمغلقها وتفصيل لمجملها‏.‏ وإيماء إلى أنها أهل لصرف الأفكار إلى تأملها ‏{‏إن في‏}‏ ولما كانت الحواميم- كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس رضي الله عنهما- لباب القرآن، حذف ما ذكر في البقرة من قوله «خلق» ليكون ما هنا أشمل فقال‏:‏ ‏{‏السماوات‏}‏ أي ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة ما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب ‏{‏والأرض‏}‏ كذلك وبما حوت من المعادن والمعايش والمنابع والمعاون ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلائل على وحدانيته وجميع كماله، فإن من المعلوم أنه لا بد لكل من ذلك من صانع متصف بذلك ‏{‏للمؤمنين *‏}‏ أي لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة، وأدلة الإلهية فيهما واضحة، ولعله أشار بالتعبير بالوصف إلى أنه لا بد في رد شبه أهل الطبائع من تقدم الإيمان، وأن من لم يكن راسخ الإيمان لم يخلص من شكوكهم‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تضمنت السورة المتقدمة إيضاح أمر الكتاب وعظيم بيانه وأنه شاف كاف وهدى ونور، كان أمر من كفر من العرب أعظم شيء لانقطاعهم عجزهم وقيام الحجة به عليهم حتى رضوا بالقتل والخزي العاجل وما قاموا بادعاء معارضته ولا تشوفوا إلى الإسناد إلى عظيم تلك المعارضة، أتبع ذلك تعالى تنبيهاً لنبيه والمؤمنين إلى ما قد نصبه من الدلائل سواه مما صد المعرض عن الاعتبار بها أو ببعضها مجرد هواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، فقال تعالى بعد القسم بالكتاب المبين ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ أي لو لم تجئهم يا محمد بعظيم آية الكتاب فقد كان لهم فيما نصبنا من الأدلة أعظم برهان وأعظم تبيان ‏{‏أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏ فلما نبه بخلق السماوات والأرض، أتبع بذكر ما بث في الأرض فقال ‏{‏وفي خلقكم وما بث فيهما من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الّيل والنهار‏}‏ أي في دخول أحدهما على الآخر بألطف اتصال وأربط انفصال ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار‏}‏ ثم نبه على الاعتبار بإنزال الماء من السماء وسماه رزقاً بحط القياس فقال ‏{‏وما أنزل الله من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها‏}‏ ثم قال ‏{‏وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون‏}‏ الاستدلال بهذه الآي يستدعي بسطاً يطول، ثم قال ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق‏}‏ أي علاماته ودلائله ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏ ثم قال ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ أبعد ما شاهدوه من شاهد الكتاب وما تضمنه خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهن من عجائب الدلائل الواضحة لأولي الألباب، فإذا لم يعتبروا بشيء من ذلك فبماذا يعتبر، ثم أردف تعالى بقريعهم وتوبيخهم في تصميمهم مع وضوح الأمر فقال ‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏}‏ الآيات الثلاث، ثم قال ‏{‏هذا هدى‏}‏ وأشار إلى الكتاب وجعله نفس الهدى لتحمله كل أسباب الهدى وجميع جهاته، ثم توعد من كفر به ثم أردف ذلك بذكر نعمه وآلائه ليكون ذلك زائداً في توبيخهم، والتحمت الآي عاضدة هذا الغرض تقريعاً وتوبيخاً ووعيداً وتهديداً إلى آخر السورة- انتهى‏.‏

ولما ذكر سبحانه بالنظر في آيات الآفاق، أتبعها آيات الأنفس فقال‏:‏ ‏{‏وفي خلقكم‏}‏ أي المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار ‏{‏وما يبث‏}‏ أي ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية بثاً على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏من دآبة‏}‏ مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم في الحركة بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزئيات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والمنافع والطبائع ونحوها ‏{‏آيات‏}‏ أي على صفات الكمال ولا سيما العزة والحكمة، وهي على قراءة حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب هنا، وفي الذي بعده عطف الآيتين على حيز إن في الآية الأولى من الاسم والخبر، فلهذه الآية نظر إلى التأكيد، وهو على قراءة الجماعة مبتدأ بالعطف على «إن» وما في حيزها، وهي أبلغ لأنها تشير إلى أن ما في تصوير الحيوان وجميع شأنه من عجيب الصنع ظاهر الدلالة على الله فهو بحيث لا ينكره أحد، فهو غني عن التأكيد، ويجوز أن تكون الآية على قراءة النصب من الاحتباك‏:‏ حذف أولاً الخلق بما دل عليه ثانياً، وثانياً ذوات الأنفس بما دل عليه من ذوات السماوات أولاً‏.‏

ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف، قال‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي فيهم أهلية القيام بما يحاولونه ‏{‏يوقنون *‏}‏ أي يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان، فلا يخالطهم شك في وحدانيته؛ قال الحرالي في تفسير ‏{‏أو كالذي مر على قرية‏}‏‏:‏ آية النفس منبهة على آية الحس، وآية الحس منبهة على آية النفس، إلا أن آية النفس أعلق، فهي لذلك أهدى، غاية آية الآفاق الإيمان، وغاية آية النفس اليقين‏.‏

ولما ذكر الظرف وما خلق لأجله من الناس، ضم إليهم بعض ما خلقه لأجلهم لشرفه بالحياة، أتبعه ما أودع الظرف من المرافق لأجل الحيوان فقال‏:‏ ‏{‏واختلاف الّيل والنهار‏}‏ بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره، وجر «اختلاف» بتقدير «في» فينوب حرف العطف مناب عامل واحد للابتداء عند من رفع «آيات»، ومناب «إن» عند من نصب، فلم يلزم نيابته مناب عاملين مختلفين في الابتداء في الرفع وفي «إن» في النصب‏.‏

ولما كان المطر أدل مما مضى على البعث والعزة، لأن الشيء كلما قل الإلف له كان أمكن للتأمل فيه، أولاه إياه فقال‏:‏ ‏{‏وما أنزل الله‏}‏ أي الذي تمت عظمته فنفذت كلمته‏.‏ ولما كان الإنزال قد يستعمل فيما اتى من علو معنوي وإن لم يكن حسياً، بين أن المراد هنا الأمران فقال‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏‏.‏

ولما كانت منافع السماء غير منحصرة في الماء قال‏:‏ ‏{‏من رزق‏}‏ أي مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق ‏{‏فأحيا به‏}‏ أي بسببه وتعقبه ‏{‏الأرض‏}‏ أي الصالحة للحياة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏بعد موتها‏}‏ أي يبسها وتهشم ما كان فيها من النبات وانقلابه بالاختلاط بترابها تراباً، فإذا نزل عليها الماء جمعه منها فأخرجه على ما كان عليه كلما تجدد نزوله، ولذلك لم يأت بالجار إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل‏.‏

ولما ذكر ما يشمل الماء، ذكر سبب السحاب الذي يحمله فقال‏:‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ في كل جهة من جهات الكون وفي كل معنى من رحمة وعذاب وغير ذلك من الأسباب، ولم يذكر الفلك والسحاب كما في البقرة لاقتضاء اللبابية المسماة بها الحواميم، ذلك لأنهما من جملة منافع التصريف، وتوحيد حمزة والكسائي أبلغ لأن تصريف الشيء الواحد في الوجوه الكثيرة أعجب ‏{‏آيات‏}‏ قراءة الرفع أبلغ لإشارتها بعدم الحاجة إلى التأكيد إلى أن ما في الآية ظاهر الدلالة على القدرة والاختيار للصانع بما في التصريف من الاختلاف، والماء بما يحدث عنه من الإنبات أوضح دلالة من بقيتها على البعث، ولأجل شدة ظهورها ناط الأمر فيها بالعقل فقال‏:‏ ‏{‏لقوم يعقلون *‏}‏ وقال القالي‏:‏ والمعنى أن المنصفين لما نظروا في السماوات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 12‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما ذكر هذه الآيات العظيمات، وكانت كلها مشتركة في العظم، بعد ما أشار إلى تباين رتبها في الخفاء والجلاء بفواصلها، قال مشيراً إلى علو رتبها بأداة البعد‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي الآيات الكبرى ‏{‏آيات الله‏}‏ أي دلائل المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجلى ولا أظهر ولا أوضح منها‏.‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما لها‏؟‏ قال، أو يكون المراد‏:‏ نشير إليها حال كوننا ‏{‏نتلوها‏}‏ أي نتابع قصها ‏{‏عليك‏}‏ سواء كانت مرئية أو مسموعة، متلبسة ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله فليس بسحر ولا كذب، فتسبب عن ذلك حينئذ الإنكار عليهم وعلى من يطلب إجابتهم إلى المقترحات طمعاً في إيمانهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏ أي خبر عظيم صادق يتجدد علمهم به يستحق أن يتحدث به، واستغرق كل حديث فقال‏:‏ ‏{‏بعد الله‏}‏ أي الحديث الأعظم عن الملك الأعلى ‏{‏وآياته‏}‏ أي والحديث عن دلالاته العظيمة ‏{‏يؤمنون *‏}‏ من خاطب- وهم الجمهور- ردوه على قوله «وفي خلقكم» وهو أقوى تبكيتاً، وغيرهم وهم أبو عمرو وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏}‏‏.‏

ولما كان لا يبقى على الكفر نوع بقاء فضلاً عن الإصرار بعد هذا البيان إلا من يستحق النكال لمجاهرته بالعناد، قال على وجه الاستنتاج مهدداً‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏ أي مكان معروف في جهنم ‏{‏لكل أفاك‏}‏ أي مبالغ في صرف الحق عن وجهه ‏{‏أثيم *‏}‏ أي مبالغ في اكتساب الإثم وهو الذنب، وعمل ما لا يحل مما يوجب العقاب، وفسر هذا بقوله‏:‏ ‏{‏يسمع آيات الله‏}‏ أي دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها ‏{‏تتلى‏}‏ أي يواصل استماعه لها بلسان القال أو الحال من أيّ تال كان، عالية ‏{‏عليه‏}‏ بجميع ما فيها من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق‏.‏

ولما كانت تلاوتها موجبة لإقلاعه فكان إصراره مع بعد رتبته في الشناعة مستبعداً كونه قال‏:‏ ‏{‏ثم يصر‏}‏ أي يدوم دوماً عظيماً على قبيح ما هو فيه حال كونه ‏{‏مستكبراً‏}‏ أي طالباً الكبر عن الإذعان وموجداً له‏.‏ ولما كان مع ما ذكر من حاله يجوز أن يكون سماعه لها، خفف من مبالغته في الكفر، بين أنها لم تؤثر فيه نوعاً من التأثير، فكان قلبه أشد قسوة من الحجر فقال‏:‏ ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنه ‏{‏لم يسمعها‏}‏ فعلم من ذلك ومن الإصرار وما قيد به من الاستكبار أن حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء، وقد علم بهذا الوصف أن كل من لم ترده آيات الله تعالى كان مبالغاً في الإثم والإفك، فكان له الويل‏.‏

ولما كان الإصرار معناه الدوام المتحكم، لم يذكر الوقر الذي هو من الأمراض الثابتة كما ذكره في سورة لقمان، قال ابن القطاع وابن ظريف في أفعالهما، أصر على الذنب والمكروه‏:‏ أقام، وقال عبد الغافر الفارسي في المجمع‏:‏ أصررت على الشيء أي أقمت ودمت عليه، وقال ابن فارس في المجمل‏:‏ والإصرار‏:‏ العزم على الشيء والثبات عليه، وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه ونقله عن عبد الحق في واعيه‏:‏ وأصل الصر الإمساك، ومنه يقال‏:‏ أصر فلان على كذا، أي أقام عليه وأمسكه في نفسه وعقده لأنه قد يقول ما ليس في نفسه وما لا يعتقده، والرجل مصر على الذنب أي ممسك له معتقد عليه، ثم قال‏:‏ من الإصرار عليه وهو العزم على أن لا يقلع عنه، وقال الأصفهاني تبعاً لصاحب الكشاف‏:‏ وأصله من أصر الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه‏.‏

ولما أخبر عن ثباته على الخبث، سببب عنه تهديده في أسلوب دال- بما فيه من التهكم- على شدة الغضب وعلى أنه إن كان له بشارة فهي العذاب فلا بشارة له أصلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فبشره‏}‏ أي على هذا الفعل الخبيث ‏{‏بعذاب‏}‏ لا يدع له عذوبة أصلاً ‏{‏أليم *‏}‏ أي بليغ الإيلام‏.‏

ولما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات، أتبعه ما هو أعم منه فقال‏:‏ ‏{‏وإذا علم‏}‏ أي أيّ نوع كان من أسباب العلم ‏{‏من آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا ‏{‏شيئاً‏}‏ وراءه وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه، قال مبيناً للعذاب‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ أي تأخذهم لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها، ويحسن التعبير بالوراء أن الكلام في الأفاك، وهو انصراف الأمور عن أوجهها إلى اقفائها فهو ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره، ويستعمل، «وراء» في الإمام، فيكون حينئذ مجاراً عن الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها عالمون والجهة التي هم بها جاهلون، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل بطراً وأشراً، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات‏.‏

ولما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية، قال‏:‏ ‏{‏ولا يغني عنهم‏}‏ أي في دفع ذلك ‏{‏ما كسبوا‏}‏ أي حصلوا من الأمور التي أفادتهم العز الذي أورثهم الاستهزاء ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من إغناء‏.‏ ولما كان هؤلاء لما هم عليه من العمى يدعون إغناء آلهتهم عنهم، قال مصرحاً بها‏:‏ ‏{‏ولا ما اتخذوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها‏.‏

ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك، فكانوا يقولون «الله» أيضاً، قال معبراً بما يفهم سفول ما سواه‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم ‏{‏أولياء‏}‏ أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع ‏{‏ولهم‏}‏ مع عذابه بخيبة الأمر ‏{‏عذاب عظيم *‏}‏ لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه‏.‏

ولما أخبر عما لمن أعرض عن الآيات بما هو أجل موعظة وأردع زاجر عن الضلال، قال مشيراً إلى ما افتتح به الكلام من المتلو الذي هذا منه‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي التنزيل المتلو عليكم ‏{‏هدى‏}‏ أي عظيم جداً بالغ في الهداية كامل فيها، فالذين اهتدوا بآيات ربهم لأنهم- لم يغتروا بالحاضر لكونه زائلاً فاستعملوا عقولهم فآمنوا به لهم نعيم مقيم ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دلتهم عليهم مرائي عقولهم به- هكذا كان الأصل، ولكنه نبه على أن كل جملة من جمله، بل كل كلمة من كلماته دلالة واضحة عليه سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏بآيات ربهم‏}‏ أي وهذه التغطية بسبب التكذيب بالعلامات الدالة على وحدانية المحسن إليهم فضلوا عن السبيل لتفريطهم في النظر لغروهم بالحاضر الفاني ‏{‏لهم عذاب‏}‏ كائن ‏{‏من رجز‏}‏ أي عقاب قذر شديد جداً عظيم القلقلة والاضطراب متتابع الحركات، قال القزاز، الرجز والرجس واحد ‏{‏أليم *‏}‏ أي بليغ الإيلام، الآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الهدى أولاً دليلاً على الضلال ثانياً، والكفر والعذاب ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً، وسره أنه ذكر السبب المسعد ترغيباً فيه، والمشقى ترهيباً منه‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية، ذكر بعض آثارها وما فيها من أياته، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال‏.‏ ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال‏:‏ ‏{‏الذي سخر‏}‏ أي وحده من غير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه ‏{‏لكم‏}‏ أيها الناس بربكم وفاجركم ‏{‏البحر‏}‏ بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القبلية للسير فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفوا عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد ‏{‏لتجري الفلك‏}‏ أي السفن ‏{‏فيه بأمره‏}‏ ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك ‏{‏من فضله‏}‏ لم يصنع شيئاً منه سواه‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ لتظهر عليكم آثار نعمته، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون *‏}‏ أي ولتكونوا بحيث يرجوا منكم من ينظر حالكم ذلك الشكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما ذكر آية البحر لعظمتها، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله، على عظمه إلا لنا، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسخر لكم‏}‏ أي خاصة ولو شاء لمنعه ‏{‏ما في السماوات‏}‏ بإنزاله إليكم منبهاً على أنها بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه، وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم، وأفعالهم أفعال من ينكره، فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ وأوصلكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها ‏{‏منه‏}‏ لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك، قال الرازي في اللوامع‏:‏ قال أبو يعقوب النهر جوري‏:‏ سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه، وقال القشيري‏:‏ ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للانسان به انتفاع، فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك‏.‏

ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني، حسن جداً قوله، مؤكداً لأن عملهم يخالفه‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا ‏{‏لقوم‏}‏ أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم ‏{‏يتفكرون *‏}‏ أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً‏.‏

ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة، وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي بقالك وحالك ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله‏:‏ اغفروا تسنناً به من أساء إليكم‏.‏ ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله‏:‏ ‏{‏يغفروا‏}‏ أي يستروا ستراً بالغاً‏.‏

ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال‏:‏ ‏{‏للذين‏}‏ وعبر في موضع ‏{‏أساؤوا إليهم‏}‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يرجون‏}‏ أي حقيقة ومجازاً، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف، وقال بعد ما نبه عليه بتلك العبارة من جليل الإشارة‏:‏ ‏{‏أيام الله‏}‏ أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم، وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه، فصار حاله حال الآئس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما، قال ابن برجان‏:‏ وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ وليس بنسخ بل هو حكم يجيء ويذهب بحسب القدرة على الانتصار، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف، وتركت هذه وأمثالها مسطورة في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم‏.‏

ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا، سقط عنه أمرها في الآخرة، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة، علل الأمر بالغفران مهدداً للجاني ومسلياً للمجني عليه‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم‏.‏

ولما كان ربما جوزي جميع الجناة، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل ذلك قال‏:‏ ‏{‏قوماً‏}‏ أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب الذي ‏{‏كانوا‏}‏ أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج ‏{‏يكسبون *‏}‏ أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر، والحاصل أنه تعالى يقول‏:‏ أعرض عمن ظلمك وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحداً، فسوف أجزيك على صبرك أجزيه على بغيه وأنا قادر، وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى

‏{‏وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 12‏]‏ ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً، فجعل الجزاء كالفاعل وإن كان مفعولاً كما جعل «زيد» فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى‏:‏ تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي من جزائه ومحيصاً به لأن الله تعالى بعظم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له، قال الله تعالى ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ بما كانوا يعملون، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير «الذين» بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى‏:‏ سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم فيجعل كلاًّ منهم فداء لكل منهم من النار، وربما رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا، روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل» ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه‏:‏ ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر»- أو كلمة نحوها، وروى الحاكم وصحح إسناده، قال المنذري‏:‏ وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال‏:‏ «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه»‏.‏

ولما رغب سبحانه ورهب وتقرر أنه لا بد من الجزاء، زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال شارحاً للحزاء‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏ قال أو جل ‏{‏فلنفسه‏}‏ أي خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا أو في الآخرة ‏{‏ومن أساء‏}‏ أي كذلك إساة قلت أو جلت ‏{‏فعليها‏}‏ خاصة إساءته كذلك، وذلك في غاية الطهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً وإن كانت نقائص النفوس قد غطت على كثير من العقول ذلك ومن جزائه أنه يديل المسيء على المحسن لهفوة وقعت له ليراجع حاله بالتوبة‏.‏

ولما كان سبحانه قادراً لا يفوته شيء كان بحيث لا يعجل فأخر الجزاء إلى اليوم الموعود‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ ‏{‏إلى ربكم‏}‏ أي المالك لكم وحده لا إلى غيره ‏{‏ترجعون *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما علم بهذه الحكم ما افتتحت به السورة من أن منزل هذا الكتاب عزيز حكيم، فكان التقدير فذلكة لذلك‏:‏ لفقد آتيناك الكتاب والحكم والنبوة وفضلناك وأمتك على العالمين وأرسلناك لتنبه الناس على ما أمامهم وكان قومه بعد ائتلافهم على الضلال قد اختلفوا بهذا الكتاب الذي كان ينبغي لهم أن يشتد اجماعهم به واستنصارهم من أجله، عطف عليه مسلياً قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة والقدرة الباهرة ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ نبي الله ابن عمكم إسحاق نبي الله ابن أبيكم إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام ‏{‏الكتاب‏}‏ الجامع للخيرات وهو يعم التوارة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم ‏{‏والحكم‏}‏ أي العلم والعمل الثابتين ثبات الاحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل، وللعمل من الإتقان بالعلم ‏{‏والنبوة‏}‏ التي تدرك بها الأخبار العظيمة التي لا يمكن اطلاع الخلق عليها بنوع اكتساب منهم، فأكثرنا فيهم من الأنبياء ‏{‏ورزقناهم‏}‏ بعظمتنا لإقامة أبدانهم ‏{‏من الطيبات‏}‏ من المن والسلوى وغيرهما من الأرزاق اللدنية وغيرها ‏{‏وفضلناهم‏}‏ بما لنا من العزة ‏{‏على العالمين‏}‏ وهم الذين تحقق إيجادنا لهم في زمانهم وما قبله فإنا آتيناهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثرنا فيهم من الأنبياء ما لم نفعله لغيرهم ممن سبق، وكل ذلك فضيلة ظاهرة ‏{‏وآتيناهم‏}‏ مع ذلك ‏{‏بينات من الأمر‏}‏ الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات، ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً‏.‏

ولما كان حالهم بعد هذا الإيتاء مجملاً، فصله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ أي أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم، ولما لم يكن اختلافهم مستغرقاً لجميع الزمن الذي بعد الإيتاء، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ الذي من شأنه الجمع على المعلوم، فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق لأن الله تعالى أراد ذلك وهو عزيز‏.‏

ولما كان هذا عجباً، بين علته محذراً من مثلها فقال‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ أي للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرئاسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس‏.‏ ولما كان البغي على البعيد مذموماً، زاده عجباً بقوله‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم، وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أوامرهم، مؤكداً لأجل إنكارهم‏.‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك وتكثير أمتك وحفظهم مما ضل به القرون الأولى وبيان يوم الفصل الذي هو محط الحكمة بياناً لم يبينه على لسان أحد ممن سلف ‏{‏يقضي بينهم‏}‏ بإحصاء الأعمال والجزاء عليها، لأن هذا مقتضى الحكمة والعزة ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك مع أنه لايجوز في الحكمة إنكاره ‏{‏فيما كانوا‏}‏ أي بما هو لهم كالجبلة ‏{‏فيه يختلفون *‏}‏ بغاية الجهد متعمدين له بخلاف ما كان يقع منهم خطأ فإنه يجوز في الحكمة أن يتفضل عليهم بالعفو عنه فقد علم أنه لا يجوز في الحكمة أصلاً أن يترك المختلفون من غير حكم بينهم لأن هذا لا يرضاه أقل الملوك فإنه لايعرف الملك إلا بالقهر والعزة ولا يعرف كونه حكيماً إلا بالعدل، وإذا كان هذا لا يرضاه ملك فكيف يرضاه ملك الملوك، وإذا كان هذا القضاء مقتضى الحكمة كان لا فرق فيه بين ناس وناس، فهو يقتضي بينكم أيضاً كذلك، ومن التأكيد للوعد بذلك اليوم التعبير باسم الرب مضافاً إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان معنى هذا أنه سبحانه وتعالى جعل بني إسرائيل على شريعة وهددهم على الخلاف فيها، فكان تهديدهم تهديداً لنا، قال مصرحاً بما اقتضاه سوق الكلام وغيره من تهديدنا منبهاً على علو شريعتنا‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم ‏{‏جعلناك‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏على شريعة‏}‏ أي طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدئة ‏{‏من الأمر‏}‏ الذي هو وحينا وهو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح‏.‏

ولما بين بهذه العبارة بعض فضلها على ما كان قبلها، سبب عنه قوله موجهاً الخطاب إلى الإمام بما أراد به المأمومين ليكون أدعى إلى اجتهادهم، فإن أمرهم تكليف وأمر إمامهم تكوين‏:‏ ‏{‏فاتبعها‏}‏ أي بغاية جهدك‏.‏ ولما كانت الشريعة العقل المحفوظ الذي أخبر الله أنه به يأخذ وبه يعطي، كان الإعراض عنها إلى غيرها إنما هو هوى، ولما كان أحاد الأمة غير معصومين أشار إلى العفو عن هفواتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبع‏}‏ أي تتعمدا أن تتبعوا ‏{‏أهواء الذين لا يعلمون *‏}‏ أي لا علم لهم أو لهم علم ولكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، فإن من تعمد اتباعهم فعلت بهم ما فعلت ببني إسرائيل حيث لعنتهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام بعد ما لعنتهم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله‏:‏ مؤكداً تنبيهاً على أن من خالف أمر الله لأجل أحد كان عمله عمل من يظن أنه يحميه‏:‏ ‏{‏إنهم‏}‏ وأكد النفي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لن يغنوا عنك‏}‏ أي لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدئ ‏{‏من الله‏}‏ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً واصل إليه، وكل ما لا يكون ذا وصلة به فهو عدم ‏{‏شيئاً‏}‏ من إغناء إن تبعتهم كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنهم ظلمة لا يضعون شيئاً في موضعه، ومن اتبعهم فهو منهم قال تعالى عاطفاً عليه‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ وكان الأصل‏:‏ وإنهم ولكنه أظهر للاعلام بوصفهم فقال‏:‏ ‏{‏الظالمين‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف الذميم ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ فلا ولاية- أي قرب- بينهم وبين الحكيم أصلاً لتباعد ما بين الوصفين فكانت أعمالهم كلها باطلة لبنائها على غير أساس خلافاً لمن يظن بها غير ذلك تقيداً بالأمور الظاهرة في هذه الدار ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الجلال والجمال والعز والكمال ‏{‏ولي المتقين *‏}‏ الذين همهم الأعظم الاتصاف بالحكمة باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله ولا ولاية بينه وبين الظالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

ولما أوصل سبحانه إلى هذا الحد من البيان، الفائت لقوى الإنسان، قال مترجماً عنه‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الوحي المنزل‏.‏ ولما كان في عظم بيانه وإزالة اللبس عن كل ملبس دق أو جل بحيث لا يلحقه شيء من خفاء، جعله نفس البصيرة، مجموعة جمع كثرة بصيغة منتهى الجموع كما جعله روحاً فقال‏:‏ ‏{‏بصائر للناس‏}‏ أي الذين هم في أدنى المراتب، يبصرهم بما يضرهم وما ينفعهم، فما ظنك بمن فوقهم من الذين آمنوا ثم الذين يؤمنون ومن فوقهم‏.‏

ولما بين ما هو لأهل السفول، بين ما هو لأهل العلو فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي قائد إلى كل خير، مانع من كل زيغ ‏{‏ورحمة‏}‏ أي كرامة وفوز ونعمة ‏{‏لقوم يوقنون *‏}‏ أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً‏.‏ ولما كان التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء‏:‏ أعلم هؤلاء المخاطبون- لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق بين المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ قال الأصبهاني‏:‏ قال الإمام‏:‏ كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً- انتهى‏.‏ وكان الأصل‏:‏ حسبوا، ولكنه عدل عنه للتنبيه على أن ارتكاب السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال‏:‏ ‏{‏حسب الذين اجترحوا‏}‏ أي فعلوا بغاية جهدهم ونزوع شهواتهم ‏{‏السيئات أن نجعلهم‏}‏ مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة ‏{‏كالذين آمنوا وعملوا‏}‏ تصديقاً لإقرارهم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية ‏{‏الصالحات‏}‏ بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء‏.‏

ولما كانت المماثلة مجملة، بينهما استئنافاً بقوله مقدماً ما هو عين المقصود من الجملة الأولى‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ أي مستو استواء عظيماً ‏{‏محياهم ومماتهم‏}‏ أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني‏.‏ ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره، قال معبراً بمجمع الذم‏:‏ ‏{‏ساء ما يحكمون *‏}‏ أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له كل ساعة أقصى نهايات السوء، فهو مما يتعجب منه، لأنه لا يدري الحامل عليه، وذلك أنه نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده‏.‏

ولما أنكر التسوية وذمهم على الحكم بها، أتبع ذلك الدليل القطعي على أن الفريقين لا يستويان وإلا لما كان الخالق لهذا الوجود عزيزاً ولا حكيماً، فقال دالاً على إنكار التسوية وسوء حكمهم بها، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فقد خلق الله الناس كلهم بالحق وهو الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وهو ثبات أعمال المحسنين وبطلان أفعال المسيئين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وخلق الله‏}‏ أي الذي له جميع أوصاف الكمال ولا يصح ولا يتصور أن يحلقه نوع نقص ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ اللتين هما ظرف لكم وابتدئت السورة بالتنبيه على آياتهما، خلقاً ملتبساً ‏{‏بالحق‏}‏ فلا يطابق الواقع فيهما أبداً شيئاً باطلاً، فمتى وجد سبب الشيء وانتفى مانعه وجد، ومتى وجد مانع الشيء وانتفى سببه انتفى، لا يتخلف ذلك أصلاً، ولذلك جملة ما وقع من خلقهما طابقه الواقع الذي هو قدرة الله وعلمه وحكمته وجميع ما له من صفات الكمال التي دل خلقهما عليها، فإذا كان الظرف على هذا الإحكام فما الظن بالمظروف الذي ما خلق الظرف إلا من أجله، هل يمكن في الحكمة أن يكون على غير ذلك فيكون الواقع الذي هو تفضيل المحسن على المسيء غير مطابق لأحوالهم، ومن جملة المظروف ما بينهما فلذا لم يذكر هنا، ولو كان ذلك من غير بعث ومجازاة بحسب الأعمال لما كان هذا الخلق العظيم بالحق بل بالباطل الذي تعالى عنه الحكيم فكيف وهو أحكم الحاكمين‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ليكون كل مسبب مطابقاً لأسبابه، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولتجزى‏}‏ بأيسر أمر ‏{‏كل نفس‏}‏ أي منكم ومن غيركم ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب الأمر الذي‏.‏ ولما كان السياق للعموم، وكان المؤمن لا يجزى إلا بما عمله على عمد منه وقصد ليكتب في أعماله، عبر بالكسب الذي هو أخص من العمل فقال‏:‏ ‏{‏كسبت‏}‏ أي كسبها من خير أو شر، فيكون ما وقع الوعد به مطابقاً لكسبها ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏لا يظلمون *‏}‏ أي لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه، وهذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل، ولو وجد منه سبحانه غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم لهم في نفس الأمر، فهذا الخطاب إنما هو على ما نتعارفه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأنه لا بد من جمعه الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة والقدرة، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله، ولم يرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك التعجيب ممن يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال‏:‏ ‏{‏أفرءيت‏}‏ أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس ‏{‏من اتخذ‏}‏ أي بغاية جهده واجتهاده ‏{‏إلهه هواه‏}‏ أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه، فهو تابع لهواه ليس غير، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة، قال‏:‏ كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به- انتهى‏.‏ ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية، ولك متشبثات قريش التي عابهم الله بها تشبثت بها الاتحادية حتى قولهم ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في‏:‏ اتحدت الطين حرقاً، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا الهوى لأن السياق والسباق له وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا ومفعول «رأى» الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام ‏{‏فمن يهديه‏}‏ تقديره‏:‏ أيمكن أحداً غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه- انتهى‏.‏ ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها‏.‏ فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن، فلذلك هو يوجب الهوان، قال الأصبهاني‏:‏ سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال‏:‏ هوان سرقة نونه، فنظمه من قال‏:‏

نون الهوان من الهوى مسروقة *** وأسير كل هوى أسير هوان

وقال آخر ولم يخطئ المعنى وأجاد‏:‏

إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد لقيت هوانا

‏{‏وأضله الله‏}‏ أي بما له من الإحاطة ‏{‏على علم‏}‏ منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر‏.‏

ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال‏:‏ ‏{‏وختم‏}‏ أي زيادة على الإضلال الحاضر ‏{‏على سمعه‏}‏ فلا فهم له في الآيات المسموعة‏.‏ ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال‏:‏ ‏{‏وقلبه‏}‏ أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه‏.‏ ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال‏:‏ ‏{‏وجعل على بصره غشاوة‏}‏ فصار لا يبصر الآيات المرئية، وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة‏.‏

ولما صار هذا الإنسان الذي صار لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار عما تقدمه‏:‏ ‏{‏فمن يهديه‏}‏ وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد الله‏}‏ أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء‏.‏ ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر حثاً على التذكر فقال مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر‏:‏ ‏{‏أفلا تذكرون *‏}‏ أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير للدلالة على الختم على مشاعرهم، فقد قالوا مع اعترافهم بتفرده تعالى بخلقهم ورزقهم وخلق جميع الموجدات في إنكار الوحدانية‏:‏ إن له شركاء، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه قادر على كل شيء ومعرفتهم أنه قد وعد بذلك في الأساليب المعجزة وأنه لا يليق بحكيم أصلاً أن يدع من تحت يده يتهارجون من غير حكم بينهم‏:‏ ‏{‏ما هي‏}‏ أي الحياة ‏{‏إلا حياتنا‏}‏ أي أيها الناس ‏{‏الدنيا‏}‏ أي هذه التي نحن فيها مع أن تذكر مدلول هذا الوصف الذي هو أمر نسي لا يعقل إلا بالإضافة إلى حياة أخرى بُعدى كافٍ في إثبات البعث‏.‏

ولما أثبتوا بادعائهم الباطل هذه الحياة أتبعوها حالها فقالوا‏:‏ ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ أي تنزع الروح من بعض فيموت، وتنفخ في بعض آخر فيحيى، وليس وراء الموت حياة أخرى للذي مات، فقد أسلخوا أنفسهم بهذا القول من الإنسانية إلى البهيمية لوقوفهم مع الجزئيات، ولما كان هلاكهم في زعمهم لا آخر له، عدوا الحياة في جنبه عدماً فلم يذكروها وقالوا بجهلهم‏:‏ ‏{‏وما يهلكنا‏}‏ أي بعد هذه الحياة ‏{‏إلا الدهر‏}‏ أي الزمان الطويل بغلبته علينا بتجدد إقباله وتجدد إدبارنا بنزول الأمور المكروهة بنا، من دهره- إذا غلبة‏.‏ ولما أسند إليهم هذا القول الواهي، بين حالهم عند قوله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي قالوه والحال أنه ما ‏{‏لهم بذلك‏}‏ أي القول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه، وأن الهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من علم‏}‏ أي كثير ولا قليل ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هم إلا يظنون *‏}‏ بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف، وأنه لم يرجع أحد من الموتى‏.‏

ولما كان هذا من قولهم عجباً، زاده عجباً بحالهم عند سماعهم للبراهين القطعية، فقال عاطفاً على «قالوا»‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى‏}‏ أي تتابع بالقراءة من أيّ تال كان ‏{‏عليهم آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها ‏{‏بينات‏}‏ أي في غاية المكنة في الدلالة على البعث، فلا عذر لهم في ردها ‏{‏ما كان‏}‏ أي بوجه من وجوه الكون ‏{‏حجتهم‏}‏ أي قولهم الذي ساقوه مساق الحجة، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة ‏{‏إلا أن قالوا‏}‏ قولاً ذميماً ولم ينظروا إلى مبدئهم ‏{‏ائتوا‏}‏ أيها التالون للحجج البينة من النبي- صل الله عليه وسلم- وأتباعه الذين اهتدوا بهداه ‏{‏بآبائنا‏}‏ الموتى، وحاصل هذا أنه ما كان لهم حجة إلا أن أتوا بكلام معناه‏:‏ ليس لنا حجة لأنه ليس فيه شبهة فضلاً عن حجة، وما كفاهم مناداتهم على أنفسهم بالجهل حتى عرضوا لأهل البينات بالكذب فقالوا‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين *‏}‏ أي عريقين في الكون في أهل الصدق الراسخين فيه من أنه سبحانه وتعالى يبعث الخلق بعد موتهم، وذلك استبعاد منهم لأن يقدر على جمع الجسم بعد ما يلي، وهم يقرون بأنه الذي خلق ذلك الجسم ابتداء، ومن المعلوم قطعاً أن من قدر على إنشاء شيء من العدم قدر على إعادته بطريق الأولى‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى إنما يقبل الإيمان عند إمكان تصوره، وذلك إذا كان بالغيب لم يجبهم إلى إحياء آبائهم إكراماً لهذه الأمة لشرف نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سنته الإلهية جرت بأن من لم يؤمن بعد كشف الأمر بإيجاد الآيات المقترحات أهلكه كما فعل بالأمم الماضية، فرفعهم عن الحس إلى التدريب على الحجج العقلية فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحكمة ‏{‏يحييكم‏}‏ أي يجدد هذا تجديداً لا يحصى كما أنتم به مقرون إحياء لأجساد يخترعها من غير أن يكون لها أصل في الحياة ‏{‏ثم يميتكم‏}‏ بأن يجمع أرواحكم من أجسادكم فيستلها منها لا يدع «شيئاً» منها في شيء من الجسد وما ذلك على الله بعزيز فإذا هو كما كان قبل الإحياء كما تشاهدون، ومن قدر على هذا الإبداء على هذا الوجه من التكرر ثم على تمييز ما بث من الروح في حال سلها من تلك الأعضاء الظاهر عادة مستمرة كان المخبر عنه بأنه يجمع الخلق بعد موتهم من العريقين في الصدق، فلذلك قال من غير تأكيد‏:‏ ‏{‏ثم يجمعكم‏}‏ أي بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد، منتهين ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ أي القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق الذين أماتهم‏.‏

ولما صح بهذا الدليل القطعي المدعى، أنتج قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ أي شك بوجه من الوجوه ‏{‏فيه‏}‏ بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ بما لهم من السفول بما ركبنا فيهم من الحظوظ والشهوات التي غلبت على غريزة العقل فردوا بها أسفل سافلين في حد النوس وهو التردد لم يرتقوا إلى الإيمان ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي لا يتجدد لهم علم لما لهم من النوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل، فهم واقفون مع المحسوسات، لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور لتظهر قدرتنا ويتحقق اسمنا الباطن كما تحقق الظاهر عند من هديناه لعلم ذلك‏.‏

ولما دل على قدرته على الإعادة بهذا الدليل الخاص الذي تقديره‏:‏ فالله الذي ابتدأ خلقكم من الأرض على هذا الوجه قادر على إعادتكم، عطف عليه دليلاً آخر جامعاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده ‏{‏ملك السماوات‏}‏ كلها ‏{‏والأرض‏}‏ التي ابتدأكم منها، ومن تصرف في ملكه بشيء من الأشياء، كان قادراً على مثله ما دام ملكاً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ له ملك ذلك أبداً، فهو يفعل فيه اليوم ما تشاهدون مع رفع هذا وخفض هذا، فلو أن الناس سلموا لقضائه لوصلوا إلى جميع ما وصلوا إليه بالبغي والعدوان، فإنه لا يخرج شيء عن أمره ولكن أكثر الناس اليوم في ريبهم يترددون، بنى عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة‏}‏ أي توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمامه أمره الناهض بأعباء ما يريد، وكرر سبحانه للتهويل والتأكيد قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذا تقول يخسرون- هكذا كان الأصل، ولكنه قال للتعميم والتعليق بالوصف‏:‏ ‏{‏يخسر المبطلون *‏}‏ أي الداخلون في الباطل العريقون في الاتصاف به، الذين كانوا لا يرضون بقضائي فيستعجلون فيتوصلون إلى مراداتهم بما لم آمر به، ولا يزالون يبغون إلى أن يأتي الوقت الذي قدرت وصلوهم إليها فيه، فيصلون ويظنون أنهم وصلوا بسعيهم، وأنهم لو تركوا لما كان لهم ذلك فيخسرون لأجل سعيهم بما جعلت لهم من الاختيار بمرادي فيهم على خلاف أمري، خسارة مستمرة التجدد لا انفكاك لهم عنها ويفوز المحقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك من شأن اليوم مهولاً، عم في الهول بقوله مصوراً لحاله‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ أي في ذلك اليوم ‏{‏كل أمة‏}‏ من الأمم الخاسرة فيها والفائزة ‏{‏جاثية‏}‏ أي مجتمعة لا يخلطها غيرها، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها تؤمر به، جلسة المخاصم بين يدي الحاكم، ينتظروا القضاء الحاتم، والأمر الجازم اللازم، لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم‏.‏ ولما كان كأن قيل‏:‏ هم مستوفزون، قال‏:‏ ‏{‏كل أمة‏}‏ أي من الجاثين ‏{‏تدعى إلى كتابها‏}‏ أي الذي أنزل إليها وتعبدها الله به والذي نسخته الحفظة من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خاله هلك، ويقال لهم حال الدعاء‏:‏ ‏{‏اليوم تجزون‏}‏ على وفق الحكمة بأيسر أمر ‏{‏ما‏}‏ أي عين الذي ‏{‏كنتم‏}‏ بما هو لكم كالجبلات ‏{‏تعملون *‏}‏ أي مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر‏.‏

ولما أخبر بالجزاء، بين كيفية ما به يطبق بين كتاب الإنزال وكتاب الأعمال، فما حكم به كتاب الإنزال أنفذه الكبير المتعال، فقال مشيراً إلى كتاب الإنزال بأداة القريب لقربه وسهولة فهمه‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا‏}‏ أي الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا ‏{‏ينطق‏}‏ أي يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق ‏{‏عليكم بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم، ذلك بأن يقول‏:‏ من عمل كذا فهو كافر، ومن عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع، فيطبق ذلك على ما عملتموه فإذا الذي أخبر به الكتاب مطابق لأعمالكم لا زيادة فيه ولا نقص، كل كلي ينطبق على جزئيه سواء بسواء كما نعطيكم علم ذلك في ذلك اليوم، فينكشف أمر جبلاتكم وما وقع منكم من جزئيات الأفعال لا يشذ عنه منه ذرة، وتعلمون أن هذا الواقع منكم مطابق لما أخبر به الكتاب الذي أنزلناه، فهو حق لأن الواقع طابقه، هذا نطقه عليكم، وأما نطقه لكم فالفضل‏:‏ الحسنة بعشر أمثالها إلى ما فوق ذلك‏.‏

ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق، وكانوا كأنهم يقولون‏:‏ من يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان، وكانوا ينكرون أمر الحفظة وغيره مما أتت به الرسل، أكد قوله مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ على ما لنا من القدرة والعظمة الغنية عن الكتابة ‏{‏كنا‏}‏ على الدوام ‏{‏نستنسخ‏}‏ أي نأمر ملائكتنا بنسخ أي نقل ‏{‏ما كنتم‏}‏ طبعاً لكم وخلقاً ‏{‏تعملون *‏}‏ قولاً وفعلاً ونية، فإن كان المراد بالنسخ مطلق النقل فهو واضح، وإن كان النقل من أصل فهو إشارة إلى لوح الجبلات المشار إليه بكنتم أو من اللوح المحفوظ ليطابق به ما يفعله العامل، ومن المشهور بين الناس أن كل أحد يسطر في جبينه ما يلقاه من خير أو شر‏.‏

ولما صرح بالمبطلين حسب ما اقتضاه الحال كما تقدم، وأشار إلى المحقين، صرح بما لوح إيه من أمر المحقين وعطف عليهم أضدادهم، فقال بادئاً بهم على طريق النشر المشوش مفصلاً‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا‏}‏ أي من الأمم الجاثية ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لدعواهم الإيمان ‏{‏الصالحات فيدخلهم‏}‏ أي في ذلك اليوم الذي ذكرنا عظمته وشدة هوله ‏{‏ربهم‏}‏ الذي أحسن إليهم بالتوفيق بالأعمال الصالحة المرضية الموصلة ‏{‏في رحمته‏}‏ أي تقريبه وإكرامه بجليل الثواب وحسن المآب، وتقول لهم الملائكة تشريفاً‏:‏ سلام عليكم أيها المؤمنون، ودل على عظيم الرحمة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإحسان العالي المنزلة ‏{‏هو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الفوز‏}‏‏.‏

ولما كان السياق لغباوتهم وخفاء الأشياء عليهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏المبين *‏}‏ الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره، لأنه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص، بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا، فإنها- مع كونها كانت فوزاً- كانت خفية جداً على غير الموقنين ‏{‏وأما الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما جلته لهم مرائي عقولهم وفطرهم الأولى من الحق الذي أمر الله به ولو عملوا جميع الصالحات غير الإيمان، فيدخلهم الملك الأعظم في لعنته‏.‏

ولما كان هذا الستر سبباً واضحاً في تبكيتهم قال‏:‏ ‏{‏أفلم‏}‏ أي فيقال لهم‏:‏ ألم يأتكم رسلي، وأخلق لكم عقولاً تدلكم على الصواب من التفكر في الآيات المرئية من المعجزات التي أتوكم بها وأنزل عليكم بواسطتهم آيات مسموعة فلم ‏{‏تكن آياتي‏}‏ على ما لها من عظمة الإضافة إليّ وعظمة الإتيان إليكم على ألسنة رسلي الذين هم أشرف خلقي‏.‏

ولما كانت هذه الآيات توجب الإيمان لما لها من العظمة بمجرد تلاوتها، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏تتلى‏}‏ أي تواصل قراءتها من أيّ تال كان، فكيف إذا كانت بواسطة الرسل، تلاوة مستعلية ‏{‏عليكم‏}‏ لا تقدرون على رفع شيء منها بشيء يرضاه منصف ‏{‏فاستكبرتم‏}‏ أي فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع أن طلبتم الكبر لأنفسكم وأوجدتموه على رسلي وآياتي ‏{‏وكنتم‏}‏ خلقاً لازماً ‏{‏قوماً‏}‏ أي ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه ‏{‏مجرمين *‏}‏ أي عريقين في قطع ما يستحق الوصل، وذلك هو الخسران المبين، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإدخال في الرحمة أولاً دليلاً على الإدخال في اللعنة ثانياً، وذكر التبكيت ثانياً دليلاً على التشريف أولاً، وسره أن ما ذكره أدل على شرف الولي وحقارة العدو ‏{‏وإذا‏}‏ أي وكنتم إذا ‏{‏قيل‏}‏ من أيّ قائل كان ولو على سبيل التأكيد‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال ‏{‏حق‏}‏ أي ثابت لا محيد عنه يطابقه الواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف فيه مناقضاً للحكمة ‏{‏والساعة‏}‏ التي هي مما وعد به وهي محط الحكمة فهي أعظم ما تعلق به الوعد ‏{‏لا ريب فيها‏}‏ بوجه من الوجوه لأنها محل إظهار الملك لما له من الجلال والجمال أتم إظهار ‏{‏قلتم‏}‏ راضين لأنفسكم بحضيض الجهل‏:‏ ‏{‏ما ندري‏}‏ أي الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه ‏{‏ما الساعة‏}‏ أي نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها‏.‏

ولما كان أمرها مركوزاً في الفطر لا يحتاج إلى كبير نظر، بما يعلم كل أحد من تمام قدرة الله تعالى، فمتى نبه عليها نوع تنبيه سبق إلى القلب علمها، سموا ذلك ظناً عناداً واستكباراً، فقالوا مستأنفين في جواب من كأنه يقول‏:‏ أفلم تفدكم تلاوة هذه الآيات البينات علماً بها‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏نظن‏}‏ أي نعتقد ما تخبروننا به عنها ‏{‏إلا ظناً‏}‏ وأما وصوله إلى درجة العلم فلا‏.‏ ولما كان المحصور لا بد وأن يكون أخص من المحصور فيه كان الظن الأول بمعنى الاعتقاد، ولعله عبر عنه بلفظ الظن تأكيداً لمعنى الحصر، ولذلك عطفوا عليه- تصريحاً بالمراد لأن الظن قد يطلق على العلم- قولهم‏:‏ ‏{‏وما نحن‏}‏ وأكدوا النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏بمستيقنين *‏}‏ أي بموجود عندنا اليقين في أمرها ولا بطالبين له- هذا مع ما تشاهدونه من الآيات في الآفاق وفي أنفسكم وما يبث من دابة وما ينبهكم على ذلك من الآيات المسموعة، وهذا لا ينافي آية ‏{‏إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ لأن آخرها مثبت للظن، فكأنهم كانوا تارة يقوى عندهم ما في جبلاتهم وفطرهم الأولى من أمرها فيظنونها، وتارة تقوى عليهم الحظوظ مع ما يقترن بها من الشبهة المبنية على الجهل فيظنون عدمها فيقطعون به لما للنفس إليه من الميل، أو كانوا فرقتين- والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد، التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشديد الغضب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وبدا‏}‏ أي ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال، والزلازل والأهوال، وظهر ‏{‏لهم‏}‏ غاية الظهور ‏{‏سيئات ما‏}‏ ولما كان السياق للكفرة، وكانوا مؤاخذين بجميع أعمالهم فإنه ليس لهم أساس صالح يكون سبباً لتكفير شيء مما تقلبوا فيه ولم يقتض السياق خصوصاً مثل الزمر، عبر بالعمل الذي هو أعم من الكسب فقال‏:‏ ‏{‏عملوا‏}‏ فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك ‏{‏وحاق بهم‏}‏ أي أحاط على حال القهر والغلبة، قال أبو حيان‏:‏ ولا يستعمل إلا في إلا في المكروه‏.‏ ‏{‏ما كانوا‏}‏ جبلة وخلقاً ‏{‏به يستهزءون *‏}‏ أي يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك ‏{‏وقيل‏}‏ أي لهم على قطع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له، فكأنه بلسان كل قائل‏:‏ ‏{‏اليوم ننساكم‏}‏ أي نفعل معكم بالترك من جميع ما يصلحكم فعل المنسي الذي نقطع عنه جميع إحساننا فيأتيه كل شر ‏{‏كما نسيتم‏}‏ وأضاف المصدر إلى ظرفه لما فيه من الرشاقة والبلاغة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقاء يومكم هذا‏}‏ أي الذي عملتم في أمره عمل الناسي له، ومن نسي لقاء اليوم نسيء لقاء الكائن فيه بطريق الأولى، وقد عابهم الله سبحانه تعالى بذلك أشد العيب لأن ما عملوه ليس من فعل الحزمة أن يتركوا ما ضرره محتمل لا يعتدون له، وإنما هذا فعل الحمق الذين هم عندهم أسقال لا عبرة لهم ولا وزن لهم، وعبر بالنسيان لأن علمه مركوز في طبائعهم، وعبر في فعله بالمضارع ليدل على الاستمرار، وفي فعلهم بالماضي ليدل على أن من وقع منه ذلك وقتاً ما وإن قل كان على خطر عظيم بتعريض نفسه لاستمرار الإعراض عنه‏.‏

ولما كان تركه على هذا الحال يلزم منه استمرار العذاب، صرح به إيضاحاً له لئلا يظن غير ذلك، فقال مبيناً لحالهم‏:‏ ‏{‏ومأواكم النار‏}‏ ليس لكم براح عنها أصلاً، لأن أعمالكم أدخلتكموها، ولا يخرج منها إلا من أذنا في إخراجه، نحن قد جعلناكم في عداد المنسي فلا يكون من قبلنا لكم فرج ‏{‏وما لكم‏}‏ في نفس الأمر سواء أفكرتم وأنتم مكذبون في مدافعة هذا اليوم أو تركتموه ترك المنسي ‏{‏من ناصرين *‏}‏ ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة‏.‏

ولما ذكر جزاءهم على ما هو الحق المساوي لأعمالهم طبق الفعل بالفعل، علله بما لزم على أعمالهم فقال‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي العذاب العظيم ‏{‏بأنكم اتخذتم‏}‏ أي بتكليف منكم لأنفسكم وقسر على خلاف ما أدى إليه العقل، وجاءت به الرسل، وساعدت عليه الفطر الأول ‏{‏آيات الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا شيء أعظم منه ‏{‏هزواً‏}‏ أي جعلتموها عين ما أنزلت للإبعاد منه ‏{‏وغرتكم‏}‏ لضعف عقولكم ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ أي الدنية فآثرتموها لكونها حاضرة وأنت كالبهائم لا يعدو نظركم المحسوس فقلتم‏:‏ لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب، ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالأخرى‏.‏

ولما أوصلهم إلى هذا الحد من الإهانة، سبب عنه زيادة في إهانتهم وتلذيذاً لأوليائه الذين عادوهم فيه وإشماتاً لهم بهم‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ بعد إيوائهم فيها ‏{‏لا يخرجون‏}‏ بمخرج ما ‏{‏منها‏}‏ لأن الله لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك ‏{‏ولا هم‏}‏ خاصة ‏{‏يستعتبون *‏}‏ أي يطلب من طالب ما منهم الإعتاب، وهو الاعتذار بما يثبت لهم العذر ويزيل عنهم العتب الموجب للغضب بعمل من الأعمال الصالحات لأنهم في دار الجزاء لا دار العمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما أثبت سبحانه بعده بإثبات الآيات المرئية والمسموعة وإعزاز أوليائه وإدلال أعدائه من غير مبالاة بشيء ولا عجز عن شيء مع الإحاطة التامة بكل شيء قدرة وعلماً، تسبب عن ذلك حتماً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فللّه‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بجميع صفات الكمال‏.‏ ولما أبان سبحانه أن ذلك ثابت له لذاته لا لشيء آخر، أثبت أنه لا بالإحسان والتدبير فقال تعالى‏:‏ ‏{‏رب السماوات‏}‏ أي ذات العلو والاتساع والبركات‏.‏ ولما كان السياق لإثبات الاختصاص بالكمال، وكانوا قد جعلوا له سبحانه ما دل على أنهم لا شبهة لهم في عبادتهم بحصر أمرهم في الهوى، أعاد ذكر الرب تأكيداً وإعلاماً أن له في كل واحد من الخافقين أسراراً غير ما له في الآخر، فالتربية متفاوتة بحسب ذلك، وأثبت العاطف إعلاماً بأن كمال قدرته في ربوبيته للأعلى والأسفل على حد سواء دفعاً لتوهم أن حكمه في الأعلى أمكن لتوهم الاحتياج إلى مسافة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورب الأرض‏}‏ أي ذات القبول للواردات‏.‏

ولما خص الخافقين تنبيهاً على الاعتبار بما فيهما من الآيات لظهورها، عم تنبيهاً على أن له وراء ذلك من الخلائق ما لا يعلمه إلا لله سبحانه وتعالى فقال مسقطاً العاطف لعدم الاحتياج إليه بعد إثبات استواء الكونين الأعلى والأسفل في حكمه من حيث العلم والقدرة للتنزه عن المسافة، وذلك لا يخرج عنه شيء من الخلق لأنه إما أن يكون علوياً أو سفلياً ‏{‏رب العالمين *‏}‏ فجمع ما مفرده يجل على جميع الحوادث لأن العالم ما سوى الله‏.‏ تنبيهاً على أصنافه وتصريحاً بها وإعلاماً بأنه أريد به مدلوله المطابقي لا البعض بدلالة التضمن، وأعاد ذكر الرب تنبيهاً على أن حفظه للخلق وتربيته لهم ذو ألوان بحسب شؤون الخلق، فحفظه لهذا الجزء على وجه يغاير حفظه لجزء آخر، وحفظه للكل من حيث هو كل على وجه يغاير حفظه لكل جزء على حدته، مع أن الكل بالنسبة إلى تمام القدرة على حد سواء‏.‏

ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفوء له، عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ أي وحده ‏{‏الكبرياء‏}‏ أي الكبر الأعظم الذي لا نهاية له‏:‏ ‏{‏في السماوات‏}‏ كلها ‏{‏والأرض‏}‏ جميعها اللتين فيهما آيات للمؤمنين، روى مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار»، وفي رواية‏:‏ عذبته، وفي رواية‏:‏ قصمته‏.‏

‏{‏وهو‏}‏ وحده ‏{‏العزيز‏}‏ الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ‏{‏الحكيم *‏}‏ الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات، وفواصل وغايات، وبعد أن حرر معانيه وتنزيله جواباً لما كانوا يعتنون به، فصار معجزاً في نظمه ومعناه وإنزاله طبق أجوبة الوقائع على ما اقتضاه الحال، فانطبق آخرها على أولها بالصفتين المذكورتين، وبالحث على الاعتبار بآيات الخافقين، والتصريح بما لزم ذلك من الكبرياء المقتضية لإذلال الأعداء وإعزاز الأولياء- والله الهادي إلى الصواب وإله المرجع والمآب- والله أعلم بمراده‏.‏